لو كنت تتجول صباحاً في شارع من شوارع العاصمة الفيتنامية، “هانوي”، فإنك حتماً سترى آلاف الدراجات النارية والبخارية الصغيرة، بعضها يتمايل مع أوزان اثنين أو ثلاثة من الركاب، ولا بأس بكثير من أكياس الأرز وصناديق البضائع وقطع من الأثاث القديم التي قُيّدت إلى الأسفل بشكل يوحي وكأنها أثقل من المركبة والسائق معاً. بلا شك، فإن عبور الطريق هي تجربة شاقة، ولكن وسط كل هذه الفوضى العارمة فإن “النظام” يعمل بسلاسة.
تبرز هذه الفوضى وسط تناقض حاد مع مسار الاقتصاد الكلي الذي انتهجته فيتنام وإدارتها، على مدى السنوات العشر الماضية، بكل حكمة وحصافة. فقد تم إطلاق مشروع “دوي موي”، أو ما يُعرف بـ “التجديد” الاقتصادي، في عام 1986 ليحاكي الإجراءات التي اتخذتها الصين في فتح أسواقها أمام تدفق رؤوس الأموال الأجنبية، وذلك بعد أكثر من عقد من الركود الاقتصادي عانت منه فيتنام إثر سقوط “سايغون” في يد القوات الشيوعية الفيتنامية.
لقد تغيرت فيتنام بسرعة خلال تلك السنوات، رغم ذلك، يرى السكان المحليون أن البلاد لا تزال متخلفة بالمقارنة مع جيرانها، مثل ماليزيا وتايلند الذي يبلغ دخلهما القومي الإجمالي للفرد نحو 26 ألف و15 ألف دولار على التوالي. في العام الماضي، بلغ الدخل القومي الإجمالي للفرد في فيتنام نحو 6 آلاف دولار، ما سلط الضوء على التقدم الباهر الذي حققته الدولة في سبيل القضاء على الفقر المدقع. حيث أصبحت “هانوي”، اليوم، بعيدة كل البعد عن تلك المدينة الهادئة الوادعة التي كانت تتصف بها قبل الانطلاقة الاقتصادية لفيتنام، على الرغم من استمرار الفقر في المناطق الريفية، وخاصة في مناطق الأقليات العرقية النائية.
في الواقع، فإن الحفاظ على هذا التقدم هو بمثابة التحدي الرئيسي الذي يواجه صانعي السياسات في فيتنام، اليوم، خصوصاً مع تركُّز الثروة في أيدي قلة من الناس.
في هذا الصدد، أعلنت فيتنام، في عام 2010، عن خطط طموحة لتحويل البلد إلى اقتصاد يعتمد معايير دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، في محاولة منها لمحاكاة صعود نجم كوريا الجنوبية، الدولة التي كانت يوماً ماً تتصدر قائمة أفقر دول العالم.
بالنسبة لكوريا الجنوبية، فإن مفتاح نجاحها كان إصلاح التعليم، وهذا، تحديداً، هو أحد المجالات التي تسعى فيتنام إلى تطويره، حيث أصبحت الحوارات مع طلاب وشباب فيتنام تتخلله الإشارة إلى أهمية التعليم الجيد بالنسبة إلى الشعب الفيتنامي، حتى بات الاستثمار في التعليم جزء من خطط “التجديد” الاقتصادي للدولة.
وقد تمت أخيراً ترقية الاقتصاد الفيتنامي إلى القسم الأوسط من الجداول الاقتصادية الدولية، بعدما كانت تقبع في القسم الأخير منها. حيث تبدو فيتنام مصممة على الاستمرار في الارتقاء على سلم الترتيب. وكما هو الحال مع معظم اقتصادات آسيا الكبرى، فإن اقتصاد فيتنام لم يتأثر سلباً نتيجة التباطؤ الاقتصادي العالمي، والذي بات وقوعه أشبه بوعكة صحية عابرة على الاقتصاد الفيتنامي، حيث من المتوقع نمو الاقتصاد بواقع 5٪ خلال العام الحالي، على الرغم من هذا الرقم هو أقل من المعدل المتوسط الذي تم تسجيله في العقد السابق والذي كان يتراوح بين 7٪ و8.5٪.
وفي مطلع عام 2011، شكّل افتتاح شركة التكنولوجيا الأميركية العملاقة، “إنتل”، لأكبر مصنع لها في العالم في مدينة “هو تشي منه” الفيتنامية، بمثابة تذكير من قبل شركة رفيعة المستوى ببروز فيتنام كهدف استثماري مهم للشركات متعددة الجنسيات، وهو ما أثبتته قمتا شرق آسيا والآسيان، اللتان انعقدتا في فيتنام بعد ذلك بأسبوع، ونتج عنهما توقيع فيتنام صفقات استثمارية كبرى مع شركتي “مايكروسوفت” و”بوينغ” العملاقة.
في الواقع، جزء كبير من نجاح فيتنام في خروجها من دائرة الفقر المدقع وتحقيقها للنمو الاقتصادي يمكن عزوه إلى قدرتها على إذابة جليد علاقاتها المتوترة مع الولايات المتحدة من خلال إقامة روابط تجارية واستثمارية قوية معها. حيث تشكل الولايات المتحدة، اليوم، ثاني أكبر شريك تجارى لفيتنام بعد الصين. وعلى رغم من العداوات التاريخية مع الصين، عندما كانت فيتنام موقعاً للاستعمار الصيني لعقود طويلة من الزمن، إلّا أنها تمكنت من تكييف اقتصادها على النمط الصيني، في إشارة منها بأن استراتيجيتها الأساسية تعتمد على تحقيق التوازن بين العملاقين.